متي يعود الزمان يوما
أجلس بمفردى أتناول طعامى ,أشعر ببؤس الغريب الذى يتناول طعامه كل يوم بمفرده بحيث أصبح تحريك الملعقة فعلاً آلياً وفقدت كل الأطعمة لونها وطعمها.
ثم أتراجع عن هذه الفكرة التى تُعتبر نوعاً من الترف بالمقارنة مع الفتى فى المستشفى الذى لم يكن قادراً على تحريك جسده للجلوس على السرير أو جلب كوب الماء لنفسه حتى.
تخوننى دمعتان فأحبسهما فتكتشفهما الفتاة الجالسة فى الكرسى المقابل ,وبكل تلقائية تسألنى "هل أنت حزينة؟",فأبتسم بامتنان لهذا السؤال الذى كان كافياً ليكفكف دموعى ,تحدثنا معاً ما يزيد عن الساعة ,تحدثت هى وبكت كثيراً ,
لم أكن أملك ورقة وقلماً فحفرت لها رقم هاتفى على برتقالة وظللت أردده لها لتحفظه وأوصيتها أن تحدثنى ,
أن يحاول الشخص الغريب تضميدك فتكتشف أنه لا يملك ضماداً لنفسه حتى ,أن يشاء القدر أن تلتقى بى لتبكى وكأنها كانت تنتظر أى غريب لتستغيث به وليربّت على قلبها قليلاً ..
أحببت دائمًا أن أختار الخيارات الأجمل، خلال طريق عودتي للبيت كنت أختار الطريق الأجمل ولو كان الأطول أو الأصعب، ظلت تستهويني الطرق منذ طفولتي، وكنت دائمًا حالمة شاردة.
عندما أتذكر أحداث طفولتي أتذكر جيدًا مشاعري حينها وأفكاري عما أرى وأحلامي وتوقعاتي أكثر من الحدث الرئيسي، أتذكر تحديقي في النباتات والأزهار على جانب الطريق وأفكاري عن الشوك على جانب الورود وعن تدفق المياة ببطء في الترعة المجاورة وحركة أغصان الأشجار مع الريح والشمس المنكسرة ناحية الغروب وقت العصر، وصمت الكون وحديث قلبي المرتفع.
لا أتذكر وجوه الناس الذين مروا بجواري ولا أتذكر حواراتهم، حين كبرت كنت أفضل أن أعود إلى محطة رمسيس في طريقي للذهاب للبيت، بدلًا من الطريق المباشر، أحسست دائمًا أن هناك ما يربطني بالمحطة والقطارات المسافرة.
أقف أمام المحطة دقائق وأحدق في المسافرين وأتخيل القطارات والطرق الجميلة على الجانبين والمدن والعوالم الأخرى التي لا أعرف عنها شيئًا، ثم أجلس في الميكروباص بجانب الشباك وأستعد لدفع الأجرة سريعًا حتى أتمكن من الشرود في الطريق أطول وقت ممكن، والهواء القوي يدخل من الشباك الى كل جزء من جسمي كأنه يحررني وأشعر أنني خفيفة جدا وأنني أطير .
ظللت دائما أحارب كي أصل إلى الخيار الأجمل وظللت أمشي في الطرق وأحاول وأخاطر من أجل الجمال، من أجل وقت قليل يضمد روحي ويجعلني أشعر أنني حرة وأنني أستطيع أن أطير وأستطيع أن أكون نفسي بكل جموحها الهادئ ورغبتها الدائمة في النزوح بحثًا عن الجمال ..
"دائمًا الفرار، الفرار الذي يتجدد كل صباح"