صدور "كـأَنْ لا أَحَدْ"ضمن سلسلة "نصوص أدبية" للكاتب المغربي محمد آيت علو
صدرت عن دار "آفاق للدراسات والنشر والاتصال" المغربية المركز الثقافي المغربي إصدار جديد والموسوم ب" كأَنْ لا أَحَدْ" للكاتب محمد آيت علو.
يأتي الإصدار الجديد ضمن مشروع متميز، ويضم عشرين نصا في نحو112 صفحة من الحجم المتوسط قدم لها المبدع عبده بن خالي متحدّثا عنها في مقدمةتختزلُ المشروع بين الانفلات ومسافة الإبداع، وتفتح شهية التلقّي"...يرقص الجسد مترنحا بين جنبات الكرسي لا يستقر له قرار في الجلوس طبيعيا، كأن المقعد جمر من نار، النار تسري تدريجيا، متسربة حتى تصل إلى النخاع الشوكي...ثم تسير سيرتها الطبيعية، دون أدنى مقاومة إلى أن تصل إلى تلافيف الدماغ...إذ ذاك يبدأ التفكير / القلق وينطلق التساؤل، موجات كهربائية تلسع كل الجلد:ـ ما الذي يجري في الأعماق؟ ـ ما الذي يجري من حولنا؟...موغل في تعب الاستحالة وشقاء المعنى...مشرع بفوضى خالصة تقود نحو استدراج التفاصيل الصغيرة، واللغة إلى دمورها الأقصى... وحين نهب الحكاية تنظيم عثرتها، نكون قد انفلتنا مسافات...
هذا وإن النص الأدبي الرائع لا يقابل الاستهلاكي، وإن المسافة هنا ضرورية لسبر أغوار النص، كما أن الإنفلات في الأصل مسافة إبداعية...توجُّهٌ جديدٌ يتميز بشيء مختلفٍ يضع في الحسبان القارئ، وذلك بإشراكه في العملية الإبداعية، المسافة هنا تعير اهتماماً خاصا للقارئ، لأنها تنتقل به من مجرد مستهلك، إلى قارئٍ يُساهم بنشاطٍ كبيرٍ كَكاتبٍ آخرَ للنص أو العمل الأدبي، فالقارئُ يصبح في صراع مع "الممتنع" و"الممتع" وفي إطار هذا الصراع يلعب القارئ أدواراً متعددة، فهو يقرأُ ويبحثُ عن قراءاتٍ جديدةٍ...وهنا تتحققُ إبداعيةُ النَّص وجماليته،كما أن الانفلات احتراقٌ من أجل تأسيسِ هُوية الحداثَة، وتجريبٌ صادرٌ عن شغبٍ وتمردٍ بشكل واعي، وتأملات للعالم والحياة والأشياء، وتداعيات ومسافات للذاكرة، وإبحار تخييلي، خبرة مصقولة، وسعي لتطوير الأساليب والآليات، وحرص على اكتشاف شيء جديد ينضح بالدهشة، والسؤال حول الذات، كمشروع جمالي تجريبي يتجاوز المألوف مع شيء من الجدة والمغامرة، ونشيد يعانق التحول والاستمرار، من خلال معانقة الإنسان بهدف الطموح إلى الإنخراط في لحظة الإندماج الحقيقية، ما دام كل انفلات مشروعا إبداعيا لممارسة يومية، لاتنفصل عن المشروع المجتمعي ككل، بل تخلق بينه وبين هاجس تحوله، مسافات تتمفصل أبعادها داخل ذات تنتمي للمكان الذي ولدت فيه، وعانقت من خلاله هموم وأحزان الزمان الذي يفعل فيه بشكل حضاري، وما دامت المسافات من خلال تمفصل أبعادها تمتلك إمكانية التأثير في الإنسان، في التاريخ والواقع ارتباطا بامتلاك إمكانية الفعل، والتفعيل في اللحظة الراهنة...!
كما أن التجربة الإبداعية في المشروع اللافت للنظر لدى الكاتب محمد آيت علو تعتمد على التشظي فكل جزء يعتمد على الوحدة الكاملة للتاريخ والفكر، ومن خلال القراءة الواعية نرى توظيف جديد للصورة الفنية، ولعبارات خارجة عن المألوف، أما بالنسبة للتيمات فهناك حضور مكثف لتيمة الوحدة، الموت، القبر، الشتات، البحث عن الذات، الغربة، الرحيل، الاغتراب، الخواء التيه، الجحود، النرجسية، واحتقار المغلوبين والضعفاء...مع شيء من البهجة، الابتسام، التوهج من أجل كوة للفرح في حياة لم تعد حياة...، فضلا عن النهايات فهي تكاد تشكل تحولا في مسار الأحداث علاوة على عنصر المفاجأة فيها...تسلمنا إلى الرمزية والعمق...
يبقى في الأخير أن ننوه بالقيم النبيلة والحب الجميل الذي يتغياه المؤلف في"كأنْ لا أَحَد"حيثنشدان التغيير واستشرافه، وكم هو جميل أن نبدأ كتابة للحب المتسامي الصوفي إن شئنا، ولو علم الناس ما يفعله الحب في قلوبهم وحياتهم، لتغيرت أشياء كثيرة ولتجاوزوا ما يعانونه اليوم، بل ولتغلبوا على شقائهم المُضْنِي، ولتغيَّرَ وجهُ التاريخ، هذا المَبْني على إيقاعِ الحُروبِ والقَتْلِ والدَّمار...
هكذا نجدُ عَوالم إنسانية مُدْهِشَة ومُبْهِرة، إذ نجد استكشافا أساسيا ونقصد تصدي الكاتب للأمراض النفسية مثل الانتهازية والظهور والغرور، وحب الذات والحقد والتعالي والزهو الخادع...واسترجاع مناطق ظليلة من الماضي الجميل المحجوب المنسي والمنكمش، وحشية الطفولة ووحشية الواقع.
تبقى مرحلة ظليلة غامضة ضمن هذه النصُوص المنفلتة ولقد برع الكاتب محمد آيت علو لما اصطنع تلك المسافات بينها وبين القارئ، وهذا لايَصْدِمُنا في شيء طالما أن هذه النصوص تتماهى مع حقيقة تكاد تترسَّخ كما هو الحال عند كافكا:" إنني أكتب خلاف ما أتكلم، وأتكلم خلاف ما أفكر، وأفكر خلاف ما يجب أن أفكر، وهلم جرا إلى أعمق أعماقِ الغُموض" هكذا يتداخل هذا الإنفلات في تلك المسافات لتصبح المسافات انفلاتا حَداثِيا للإبداع، ثم إن الأعمالَ الإبداعيةَ المُتَميِّزة لايحدِّدُها بعدُ مقياسٌ ثابتٌ، فهذا لايحدثُ حَتىَّ في الحُلم. كما أنَّ العالمَ يفلتُ مِنَّا باستمرار، والإبداعُ يحاولُ القَبْضَ على هذا الإفلات، فنحنُ حين نستعيدُ بالإبداعِ هذا العالم الهاربَ منا، لانضعه في صورةٍ مُؤَطَّرةٍ ونحتفظُ به كذكرى لمسافات، واسترجاع لما قد فات...وتمتدُّ هذه المسافات في ذلك الإنفلات، ليُصبحَ الإنفلاتُ مسافات بين التداخُل والإمتدادِ رؤية في اتجاه أن نكون أو لا نكون...!!
إنها الكلمة / الإبداع، والحكي عن الفرح الجامح بصخب وتوهج، عبير ينتشر عبر الأمكنة / الأزمنة من ضوء يُغَذي جُوع العتَمات المنْدُوبة جِراحها فينا كالنَّزِيف، ومساءات الرَّغْبَة المبحُوحة في الانفلاتِ من ذاك العالم المسَيَّج بالريحِ والخواء، واحتراق الكلمات الناضجة فينا، فتبقى المسافةُ بيننا طُقوساً لانفلات لم نمارسه من قبل...!
فسلاما عليك أيها الواقف عند مدخل القلب، سلاما عليك أيها الجسدُ المنفَلِتُ فينا، حُلماً يُراوِدُ الذَّاتَ، ويسعى إلى تدميرِ المَأْلُوفِ، سلاما أيُّها القلبُ الرَّاقِصُ على جدار الحُزنِ الرَّاكِضِ في اتِّجاهِ النَّافذَة بحثاً عن كُوَّةِ فَرح، ملفوفٍ بمرايا عشتار وأناشيد لوركا...يدك الريح على كف الشمس وسط الظلام، ومشيئة الظل الذي هو ظلك في ظلين...، الأولُ يحَلِّقُ داخل متاهاتِ الوَجْدِ وأزقَّةِ المدينةِ، يُغازِلُ الجرائد سيلاَ من رماد...، ويُغطِّي الثاني رموزه بحدائق تحَجَّرت نبوءاتها في دمِه، و من أجل لا شيء، هو المرمى هناك بين نوافذ الريح، بين
النَّدى والبَحْرِ، يبقى الإشتهاءُ لديكَ في الإنفلاتِ إلى شُرْفةٍ مُضيئَة، مُطَرَّزة بِلَيْلِ السُّمارِ الموسُومِ بالحَكْيِ والشَّغَبِ المبْدِع...!
مِن هُنا تَبدأُ الحكاية/ الكتابة والكلمات...، وحبك المشنوقِ بحبالِ المنْعِ والرَّدْعِ والصَّفْعِ، وحقيقة إنفجاراتك الداخلية، وكل التناقضات التي تجعلُ العالمَ يضيقُ أمام عينيك، حتى يُصبح في حَجْمِ عُلبَةِ الثِّقاب.
هكذا تبدو التجربة وكأنها خليطٌ مريرٌ من الحبر والعرق، احتباسٌ حرفيٌّ يُلقِّنُ اللغةَ صمتَها ويجُرُّ أذيالَ المجاز إلى الإفصاح والانفلات من أجل كوة للفرح على الرغم من الكبوات والضياع والوحدة التي تسكننا باستمرارللوعي ومحاولة التجاوز، على نوافذ الهروب من خيالها وظلالها. وأمام قبح العالم ...والترنّحُفي قتامة الوحدة ويستلُّ فكرةً باردةً على العُزلة أغربُ من بقايا حيرة، تزاحمٌ تحت رمادِ الأمسِ، يلملمُ عمرَه في نَفَسٍ واحدٍ، يرتشفُ حثالةَ القهوةِ السوداءِ ويقفُ. كلُّ شيء هنا على حالهِ، وهو المؤلف السادس للكاتب، وهي نصوص بشحنة مركزة وجرعات مكثفة من المشاعر الرقيقة النابعة من إنسان يتأمل كل الأشياء والتفاصيل بعمق وفلسفة خاصة للوحدة والغربة والحب والموت، والعلاقة بالناس، وتجربة التواصل مع الآخرين، ومع الذات في أصغر التفاصيل، والاعتكاف بعيداً عن الناس، في في محراب التأمل والحلم نشدان الخلاص، كما يتطرقُ هذا الكتاب إلى القيم التي غيبت من قاموس البشرية، والمثير للانتباهأنَّ الكاتب محمد آيت علو ﻭﻇﻒ ﻟﻨﺴﺞ ﺧﻴﻮﻁ نصوصه السردية ﺗﻘﻨﻴﺎﺕ ﺳﺮﺩﻳﺔ ﺣﺪﻳﺜﺔ، ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﺮﻣﺰ ﻭﺍﻷﺳﻄﻮﺭﺓ ﻭﺍﻟﻤﻮﻧﻮﻟﻮﻍ. ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺰﺝ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻘﺼﺔ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮﺓ ﻭﺍﻟﻘﺼﺔ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ، ﻭﺗﻮﻇﻴﻒ ﺍﻟﻮﻣﻀﺔ والدهشة.
والجديرُ ﺑﺎﻟﺬﻛﺮ ﺃﻥ للكاتب ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ قصصية سنة 2017 تحت عنوان"منح باردة"، والتي ﺗﻢ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﻫﺎ ﺿﻤﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺆﻟﻔﺎﺕ ﻓﻲ ﻣﺴﺎﺑﻘﺔ ﻣﺸﺮﻭﻉ "ﻃﻤﻮﺡ"، ﻛﻤﺎ ﺍﺣﺘﻠﺖ ﻗﺼﺼﻪ - ﺍﻟﺘﻲ ﺷﺎﺭﻙ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﺴﺎﺑﻘﺎﺕﻋﺮﺑﻴﺔ ودولية - ﺁﺧﺮﻫﺎ “ ﺍﻟﺮﺗﺒﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ” ﻓﻲ ﻣﺴﺎﺑﻘﺔ ﺍﻟﺴﺮﺩ ﻓﻲ ﺩﻭﺭﺗﻬﺎ ﺍلسنوية بلندن ضمن التجارب والمغامرات السردية الجريئة والناجحة، فالكاتب كان قد بدأ تجربته ب"نصوص منفلتة ومسافات"بادي الأمر، وقد نالت التجربة استحسان الكثيرين، فكانت فاتحة الانشغال بالتجريب القصصي وركوب الممكن، تجربة بدأت منذ أواخر التسعينات بمعية وتوجيهات ثلة من الكُتاب والمبدعين والنقاد المتميزين على الساحة العربية، والذين واكبوا التجربةَ بمقارباتهم المتميزة، فتحقق النجاح، ليستمر المشروع...
على أن هذا الانفلات قريبٌ من دلالته اللغوية كانفلات السجين من حراسه، وكشكل من أشكال النجاة والخلاصوالانطلاق، خلاص الحبل من اليد، وهي تجربة بدأت مع الكاتب محمد آيت علو من خلال أول مؤلف: " باب لقلب الريح من أجل كوة للفرح" في طبعتين،(الطبعة الأولى: غشت2000 والطبعة الثانية: أبريل2011)، هذا ومن المنتظر أن يلقى مؤلف "كأنْ لا أَحَدْ" نجاحا مماثلا، نظراً للعوالم التخييليةالمفتوحة على الدهشة والإثارة، وقدرة نفاذها إلى عمق الذات الإنسانية، ضمن مسافات للحب الصوفي بوسم الحلم، بحثاً عن كوة ضوء، من خلال طاقة فائقة من الكثافة اللغوية تختصرُ المسافات الزمكانية بفنية مدهشة، بدهشة الحياة ذاتها، والتي تتشكلُ بتفاصيل اليومي المعيش..حيثتأخذنا الكلمات إلى عوالم بهية،تتمايزُ ظلالاً من شلالات المعاني، وتنتقل بأرواحنا إلى صفاء المعنى، وإنسانية الإنسان. إنها دينامية داخلية تسري في نسغ النصوص المنفلتة، بمسافاتها الخاصة لهذا الكاتب، الذي يستثمرُ شاعريتهُ ليُبدعَ لغة سردية خاصة...
هكذا تأتي هذه المجموعة للكاتب محمد آيت علوفي السياق ذاته تحت عنوان : " كأَنْ لا أحَدْ " وقد ازدان بغلاف مُعْتَبَر وجد مُعَبّر يتناغم وفق قصة السيناريو أو ضمن السكريبت ،واللوحة للفنان التشكيلي خالد عروب، وتقع المجموعة في 112 صفحة ، كما أنَّها تضم عشرين عنوانا هي من الصفحة رقم 7 الى الصفحة رقم 108: وجوه وأفواه- إلى حين تمطر- أصبع صغير- زنزانة لاتضيء– كذلك بعد اليوم – صور رجال جبال - حائلُ الاشتهاء -احتضارُ حياة – طيفُ ابتسامة – اختراقٌ محموم – تردد – ذوالوجه النحاسي – الطفل الكهل – كوة في الغياب – آلة صماء والآخر إنسان –نظرة بنظرة – قناعُ ممثل – أيقونات الغفلة – أخيراً وحدك.... ويتخلل الكتاب كتابات شذرية من حصيلة التجربة الحياتية المعيشة، وكحقائق لمن خبر الحياة، حيث يجدُ الإنسانُ نفسهُ في آخر المطاف وحيداً، وباختياراته الفنية والجمالية، وفاءً منهُ لمنهجه المتميز، والمختلف في صوغ المتن النصيالحكائي والقصصي الموسوم بطابع التجريب والممانعة، المسكون بميل جارف لخلخلة الأساليب التقليدية للسرد القصصي، وخروجاً بالنص إلى عوالم خاصة مفتوحة على احتمالات الدهشة والمغامرة، وكمواصلة للحفر عميقاً في ذواتنا ولكُواته، بانفلاتات ومسافات عبَّر عنها المبدعُ "ابن الأثير عبده بن خالي" قائلاً: "*المسافةُ هنا ضرورية لسبر أغوار النص، كما أن الإنفلات في الأصل مسافة إبداعية...توجُّهٌ جديدٌ يتميز بشيء مختلفٍ يضع في الحسبان القارئ، وذلك بإشراكه في العملية الإبداعية، المسافةُ هنا تُعيرُ اهتماماً خاصا للقارئ، لأنها تنتقلُ به من مجرد مستهلك، إلى قارئٍ يُساهمُ بنشاطٍ كبيرٍ كَكاتبٍ آخرَ للنص أو العمل الأدبي، فالقارئُ يصبح في صراع مع "الممتنع" و"الممتع"، وفي إطار هذا الصراع يلعبُ القارئُ أدواراً متعددةً، فهو يقرأُ ويبحثُ عن قراءاتٍ جديدةٍ...وهُنا تتحققُ إبداعيةُ النَّص وجماليته،كما أنَّ الانفلاتَ احتراقٌ من أجل تأسيسِ هُوية الحداثَة، وتجريبٌ صادرٌ عن شغبٍ وتمردٍ بشكل واعي، وتأملات للعالم والحياة والأشياء، وتداعيات ومسافات للذاكرة، وإبحارٌ تخييلي، خبرة مصقولة، وسعي لتطوير الأساليب والآليات، وحرصٌ على اكتشاف شيء جديد ينضحُ بالدهشة، والسؤال حول الذات، كمشروع جمالي تجريبي يتجاوز المألوف، مع شيء من الجدة والمغامرة، ونشيدٌ يعانقُ التحول والاستمرار، من خلال معانقة الإنسان، بهدف الطموح إلى الإنخراط في لحظة الإندماج الحقيقية، ما دام كل انفلات مشروعاً إبداعياً لممارسة يومية، لاتنفصلُ عن المشروع المجتمعي ككل!
كما أنَّ التجربةَ الإبداعيةَ في المشروع اللافت للنظر لدى الكاتب محمد آيت علو تعتمدُ على التشظي، أما بالنسبة للتيمات فهناك حضورٌ مكثَّفٌ لتيمة الوحدة، الموت، القبر، الشتات، البحث عن الذات، الغربة، الرحيل، الاغتراب، الخواء التيه، الجحود، النرجسية، واحتقار المغلوبين والضعفاء...مع شيء من البهجة، الابتسام، والتوهج من أجل كُوَّة للفرح في حياة لم تعد حياة...، فضلا عن النهايات، فهي تكادُ تُشكلُ تحولاً في مسار الأحداث، علاوةً على عُنصر المفاجأَة فيها...تسلمنا إلى الرمزية والعُمق، وكيف لا، والكاتب محمد آيت علو تنقل كثيراً، وهو الذي خبر الحياة بكافة تفاصيلها...وكما عبر عنها الأستاذ الناقد محمد رحمان" وهو تجنيس يبدو منذ الوهلة الأولى غريبا غيرمألوف،جاءفيه:"نصوص منفلتة ومسافات"غيرأن توغلنا في فهم مقصدية النص وتراكماته الدلالية يجعلنا نلمس كون هذه النصوص قد انفلتت من عقال التجنيس نفسه، أقصـد أنها نصوص/ طبقـات تداخل فيهـا مـا هو نفسي واجتماعي و قصصي وسيري وشعري و إخباري...
أما لفظة المسافات، فهي تؤشرعلى حقيقة بادية، ولكنها غيرعادية، تتمثل في المسافات التي تفصل هذه النصوص من حيث الزمن(1993-97-98-99-2000ـ2011) مسافة زمنية استطاع الكاتب أن يكثف فيها تجربته الحياتية، وأن يصقل تجربته الإبداعية، ومن حيث المكان(من تزنيت جنوبا وصولا إلى طنجة شمالا، وألميريا، والشاون، بل إلى تخوم الشرق الصادعبالأناوالأنوية (تنغير-ورزازات مثلا) أماكن دافئة جعلت النصوص تمتلك دفقا شعوريا وإحالة على المسافـات.]لقد دخل المؤلف في سباق المسافـات الطويلة مع الزمـن والمكان وهذه طبيعة الأدب[.
كما عبر عن التجربة الأستاذ المدني بوخريس" إن المسافات الإبداعية التي يرسمها الكـاتب محمـد آيـت علو في نصوصه المنفلتة.تفتح أمام المتلقي بابا، بل زوايا وعوالم إبداعية تقحمه بشكل منفلت في مواجهة قلق إبداعي وجودي وإنساني، ومواجهة هذا التكوين الجمالي لمؤلف "كأن لا أحد"...حيث إن عليه أن يقطع هـذه المسافات اللغوية قصد الإمساك بخيط تلكالنصوص، ولن يتأتـي له ذلك إلا بفك الرموز المـكتوبة، وكشف الدلالات العميقةفي سواد الكتابة والدلالات المغيبة في بيــاضها. لأنها مسافات نصية، يتداخل فيهالشعري والصوفي ...ويمتـزج فيها الخيالي بالواقعي، وتتعرى فيها الذات من عقدها وكبريائها لتفصـح عن صراعاتها ومشاعــرها وانفعالاتها ....
إنهـا مـسافـاتملـغومة حقا بتشكيلها، وسحر وشاعرية لغتها، وجدتها وفرادتها واحترافيتها، شرعيــتها وواقعيتها وخيالها وصوفيتها ....ونجد المعنى ذاته في إحدى المقاربات للأستاذ الناقد صلاح مفيد" الأحاسيس نفسها، رغم مرور الزمن، وربما تعتقت ببعد المسافة ـ والمسافة مسافات...الدهشة عينها، ركبتني ـ خلال الوقفتين ـ أمام نص منفلت، لا على التصنيف، ولكن عن الزمن. رغم مرور كل هذه السنوات، لا يزال يحتفظ بطراوته، بطزاجته، كأنه خرج توا من تنور الكتابة ـ وما الكتابة إلا شهوة الاحتراق...
الأكيد أن الوقفة الأولى تختلف عن الوقفة الثانية. خلال الوقفة الأولى، بعد الدهشة، ركب الذات القارئة الخرس، فالنص دوخها، فلم تقو على التعبير نطقا، عن تولهها بجمال النص...
هذه المرة على العكس من ذلك، استطاعت أن تتكلم، بعد أن راكمت قدرا لا بأس به من المهارة والأدوات، وأرهفت أناملها النصوص والقراءات والتجارب، فأسعفها كل هذا على التعبير كتابة عن تجربة السفر بين جغرافيته، رغبة في القبض، على ما عجزت عنه من قبل...
هكذا انخرطت الذات العاشقة في إنتاج نص، ليس هو نقد ولا قراءة ولا حتى مقاربة (الكلمة التي صرحت بها سابقا). إنه نص يتقاطع مع النص الأول، أو لنقل بتعبير آخر، نص توّلد من رحم النص الأم...
بدءا بالعنوان، يعلن الكاتب عن مشروعه، من خلال تقابل عنصرين من عناصر العمارة العربية، أو لنقل، أهم عنصرين، بالإضافة إلى الفناء السماوي، المفتوح عموديا: الباب والكوة، المفتوحين أفقيا...
يبقى في الأخير أن نُنوهَ بالقيم النبيلة والحب الجميل الذي يتغيَّاهُ المؤلف الكاتب محمد آيت علوفي"كأنْ لا أَحَد"حيثنُشدان التغيير واستشرافه، وكم هو جميلٌ أن نبدأ كتابةً للحب المتسامي الصوفي إن شئنا، ولو علم النَّاسُ ما يفعله الحبُّ في قلوبهم وحياتهم، لتغيرت أشياء كثيرة ولتجاوزُوا ما يُعانونه اليوم، بل ولتَغلَّبُوا على شقائهم المضْنِي، ولتغيَّرَ وجهُ التاريخ، هذا المبني على إيقاعِ الحُروبِ والقَتْلِ والدَّمَار...
هكذا نجدُ عَوالم إنسانية مُدْهِشَة ومُبْهِرة، إذ نجدُ استكشافاً أساسياً ونقصد تصدي الكاتب للأمراض النفسية مثل الانتهازية والظهور والغُرور، وحب الذات والحقد والتعالي والزهو الخادع...فضلاً عن استرجاع مناطقَ ظليلة من الماضي الجميل المحجوب المنسي والمنكمش، مع وحشية الطفولة ووحشية الواقع.
ثم إن الأعمالَ الإبداعيةَ المتميِّزة لايحدِّدُها بعدُ مقياسٌ ثابتٌ، فهذا لايحدثُ حَتىَّ في الحُلم. كما أنَّ العالمَ يفلتُ مِنَّا باستمرار، والإبداعُ يحاولُ القَبْضَ على هذا الإفلات، فنحنُ حين نستعيدُ بالإبداعِ هذا العالم الهاربَ منا، لانضعه في صورةٍ مُؤَطَّرةٍ ونحتفظُ به كذكرى لمسافات، واسترجاع لما قد فات...وتمتدُّ هذه المسافات في ذلك الإنفلات، ليُصبحَ الإنفلاتُ مسافات بين التداخُل والإمتدادِ رؤية في اتجاه أن نكون أو لا نكون...!!