الدكتور عطا الله الحجايا يكتب..رواية "أدركها النّسيان" ملحمة الشّعوب والأوطان والمهمّشين والخراب
قد يعتقد المعتقد السّطحيّ عند قراءته الأولى لهذه الرّواية أنّنا أمام رواية بوحيّة لامرأة سارتْ مجبرة في درب الرّذيلة، أو أنّنا أمام قصّة حبّ بائسة متعثّرة منكودة على امتداد سبعين عاماً من المعاناة، وقد يتعثّر متعثّر بذريعة النّسيان للهروب من الواقع ظنّاً منّه أنّ الرّواية تقدم مهرباً للوجع والهزيمة والانكسار نحو المزيد من الإذعان والانطواء عبر النّسيان. وهذه جميعها تأويلات متسرّعة واعتباطيّة للرّواية، وهي تقود خارجها، لا داخلها.
إلاّ أنّ المواجهة الصّادقة والجريئة لهذه الرّواية تقول إنّنا أمام وثيقة سرديّة جريئة وخطيرة؛ إذ هي توثّق لمرحلة كاملة من السّقوط العربيّ، والانهيار الحضاريّ، والتّداعي المجتمعي الذي يزعق بالخراب والدّمار الكامل إنّ استمرّ الحال عليه بما فيه من تراجع وتخلّف وجهل.
ومن هذا المنطلق تكون رواية "أدركها النّسيان" هي رواية الشّعوب والأوطان والمهمّشين والخراب، لا سيما في الوطن العربيّ، وإن كانت قابلة للإسقاط على أيّ مجتمع معاصر يعيش الاشتراطات والحتميّات التّاريخيّة التي تعيشها الأمّة العربيّة والإسلاميّة في الوقت الحاضر، بل الحقيقة إنّ هذه الرّواية هي رواية ملحميّة بامتياز صاغتها د. سناء الشّعلان لتؤرّخ بها لمرحلة خطيرة من مراحل الأمّة العربيّة في التّاريخ المعاصر لا سيما في العقود السّبعة الأخيرة منها، وفي هذا التّوقيت الزّمنيّ إحالة ذكية وواضحة إلى زمن الصّراع مع العدوّ الصّهيونيّ، وما رافق ذلك الصّراع من مآسيه وويلاته على الإنسان العربيّ في كلّ مكان، لا على الإنسان الفلسطينيّ فقط.
هذه الرّواية الجديدة في تجربة الشعلان وفي المشهد الرّوائيّ العربيّ المعاصر هي مغامرة تجريبيّة مضنية وجبّارة واستثناء في الطّرح والشّكل واللّغة؛ فهي تصوير للجماليّات الخراب في لغة شعريّة أنيقة تخلص للوجع، وتقدّم خيبات أمل الإنسان المكسور والمخذول في مجتمع يتغوّل على الإنسان، ويسحقه حتى يجرّده من إنسانيته، في منظومة استلابيّة متوحّشة، فيضحي الجميع مثل بهاء والضّحاك اليتيمين في ميتم كبير، حيث يتعرّضان إلى أنواع الظّلم والإرهاب والتّعذيب، ولا مدافع عنهما، أو حام لهما، وعندما يخرجا إلى المجتمع الكبير يعيشان المزيد من الاستلابات في ميتم أكبر وأشنع وأشدّ وطأة، وهو المجتمع القاسي المفترس الذي يمار عليهما عربداته وظلمه وقسوته واغتصاباته المكرورة لإنسانيتهما وحقوقهما، إلى أن يكتشف المتلقّي الحاذق أنّنا نعيش جميعاً أيتاماً مستضعفين في ميتم كبير لا رحمة فيه ولا شفيق ولا قلب حنون، وأنّ أقدارنا البائسة معلّقة في أيدي مشرفين لا يعرفون الرّحمة، ولا يعنيهم من أمورنا ومآلاتنا سوى إشباع شهواتهم وغرائزهم مهما كانت النّتائج والاغتيالات المفزعة للأرواح الجميلة ولمستقبل الأمّة المتعلّقة بأبنائها وكرامتهم ووجودهم وانتمائهم لها.
هذه الرّواية هي رواية مروّعة بأكثر من معنى ومستوى، وكلّما زاد الوعي عند المتلقّي أدرك أيّ أرض من الخراب قد نبتت فيه هذه المتاهة السّرديّة العملاقة التي ترسم ملحميّة دامية بين المهمّشين المسحوقين وبين قوى الظّلم والفساد والطّغيان، كما هي رواية الشّعوب المستضعفة والأوطان المهزومة المستلبة، وهي كذلك رواية القبح المستشري في جسد الأمّة؛ فهي سفر من أسفار السّقوط والهزيمة.
وهذا لا يعني أنّ الرّواية تدعو إلى الاستسلام والنّسيان، بل هي تهجو النّسيان والتّغافل والهروب والنّكوص، إلاّ أنّها تقدّمه تصويراً لعبثيّات الواقع المعيش الذي لا مهرب أو منجى أو مصلح أو منقذ فيه.
هذه الرّواية صرخة سرديّة من كاتبتها لتعريّة الظّلم والفساد والتّخريب والكذب والتّزوير والتّلفيق، وليست رواية البوح وجماليّات العشق ومصارع العشّاق ومآقيهم، وقد حرصت الكاتبة على تعميم تجربة هذه الرّواية، وجعلها خبرة إنسانيّة؛ وهذا يفسّر عدم حصرها وتقيدها بمكان أو زمان؛ لتظّلّ أمثولة للتّجربة البشريّة المفتوحة على التّأويلات، حيث أسفار الواقع ومآلات البشر ومصارع الأحرار ونكد المتسلّطين وقبح الظّالمين ومعاناة المسحوقين وفضح صريح لستر الكاذبين والأدعياء وأرباب السّلطة وذيولها، وأهل النّفاق والمنافقين.
وليس هناك أزمان مصرّح بتوقيتها في الرّواية، إنّما هناك أزمان سائبة فيها، وهي تحيل إلى أزمان مرتبطة بالذّاكرة الجمعيّة التي تزخر بالفجيعة والهزيمة والحروب والسّقوط والاحتلال والجوع والبطالة واللّصوص والفاسدين والضّرائب الجائرة والثّورات والفتن وبحور الدّم والعصيان والجحود والتّنكيل والحرمان وقمع الحرّيّات والظّلم وحجز حريّات الأحرار وتغوّل المعتقلات وقتل المبدعين واغتيال الأشراف وأصحاب الكلمة الحقّ.
ماذا فعلت سناء الشّعلان في هذه الرّواية؟ لقد سبّت الفساد والمفسدين، ولعنت المخرّبين، وجرّمت الخائنين، عبر لغة شاعريّة راقية، تخلق من القبح جمالاً، ومن القبح اخضراراً؛ لتغدو هذه الرّواية مساحة كونيّة تشبه تجربة الأحرار والمنكودين والمحرومين والمسحوقين في كلّ زمان ومكان.
ومن هذا المنطلق يكون بهاء والضّحاك بطلا الرّواية هما رمزان من رموز للأوطان لا للمواطنين؛ فتجربتهما في هذه الرّواية ليست صورة لتجربة المواطن المسحوق فقط، بل تجربة للأوطان المضيّعة المتهاوية التي يعيث المفسدون تخريباً فيها، في أزمان المكابدة والسّقوط والانحطاط والخونة، لترتفع الرّواية من سيرة عاشقين متعثّرين، إلى سيرة شعوب منكودة وأوطان محترقة.
ومعاناة بهاء والضّحّاك هي إسقاط ذكيّ ولمّاح لمأساة الأمّة العربيّة ومعاناتها، كما هي تجسيد للضّياع العربيّ واستلاب الأمّة من داخلها وخارجها لتصل إلى ما وصلتْ إليه من فساد وانحطاط حيث نجد النّاس المبدع مثل بهاء الكاتبة الموهوبة والضّحّاك المفكّر المبدع في أكثر من حقل يُسحقان ويُشوّهان إلى حدّ تتحوّل فيه بهاء إلى بغية جسد وكلمة كي تحصل على لقمة العيش، في حين يهرب الضّحّاك إلى عوالم الهجرة ليجد إنسانيته في وطنه حيث تعرّض للاعتقال والاغتصاب والتّعذيب حتى فقد إحدى عينيه دون جريمة اقترفها.
وفي هذا الوطن المتداعي ذاته يجد فنان انتهازيّ لوطي مثل يراع طرب الاحترام والمكانة والنّفوذ والثّراء، ونجد مخنّثاً خائناً للوطن مثل هملان أبو الهيبات يصبح قائداً سياسيّاً يحدد خطوات الوطن الذي تحوّل إلى ميتم كبير يعجّ بالظلّم والقسوة، ويستغلّ أفراده، ويسحقهم، وينكّل بهم دون رحمة، كما نكّل المعلّم أفراح الرّمليّ بيتيمات الميتم، واغتصبهنّ الواحدة تلو الأخرى على معرفة من مشرفات الميتم، ورضا منهنّ، مقابل إشباع غرائزهنّ الشّاذة، وتلبية احتياجاتهنّ الجهنّميّة، ولا يكون أمام الإنسان الضّعيف سوى أن يستلم لهذا المجتمع الذي يهرسه حدّ التّلاشي، ويقبل بالحرمان حتى من الأحلام.
فهذا الميتم هو صورة عن الحياة المحترقة في الشّرق الخرائبيّ الذي يتقوّض وينهار على رأس الأشهاد، بتدبير مقصود من الأطراف جميعها المشاركة في ذلك، وعلى رأسهم المفسدون الفاسدون والمخرّبون والانتهازيون.
وعندها لا يبقى أمام المواطن إلاّ يقبل أن تُداس كرامته، أو أن يموت ثائراً في هذا الوطن، أو أن يهاجر إلى عوالم الآخر؛ ليجد فيها الكرامة والرّحمة والطّمأنينة والعدالة، بعيداً عن الوطن الذي يتمرّغ في العذاب والألم.
رحلة معاناة بهاء في هذه الرّواية، ليست رحلة امرأة جرّها المجتمع مرّة تلو الأخرى إلى البغاء، على الرّغم من محاولتها للهروب منه دون جدوى، وليست مآل امرأة انتصر مرض السّرطان عليها، ليخلّصها من الألم والمعاناة، ولكنّها رواية تكشف السّقوط والخراب المستشري في المجتمعات العربيّة وفي غيرها من مجتمعات السّقوط، وهو كشف يسير بشكل ملحميّ في صراع مستمرّ لسبعين سنة من عمر بطلي الرّواية.
وفي هذا الصّراع الملحميّ سقط الجميع في الدّرب، إلاّ فئة واحدة ظلّت مرفوعة الرأس والظّهر، وهي فئة الأحرار والثّائرين الذي ظلّوا يدافعون عن حقوقهم ومبادئهم وأوطانهم حتى آخر رمق في الرّواية، وعلى رأسهم ثابت السّرديّ المناضل الذي آثر النّضال والاستشهاد على حياة الذّل والاستعباد؛ ولذلك حظي وحده بالاحترام في هذه الرّواية التي عرّت الجميع، وأظهرت عوراتهم النّجسة.
وهذا النّضال قد خلّص ثابت السّرديّ من مآلات شخصيّات الرّواية السّاقطة الواحدة تلو الأخرى في الخزي والظّل. وبذلك تصرّح بهاء أن لا أحد يستحقّ الحياة إلاّ أولئك الذين يدافعون عن الوطن، أمّا الذين يخونون أوطانهم فليس لهم إلاّ العار والامتهان والاحتقار.
وبهاء بطلة الرّواية لم تعشق في حياتها سوى الأحرار والمناضلين والثّوّار، وجعلت أعمال الخير مرتبطة بهم، كما ارتبطت بهم أقدار التّنكيل التي وقعت عليهم من الظّالمين والفاسدين؛ فالضّحّاك دخل المعتقل طفلاً غرّاً؛ لأنّه ابن فدائيّ من الفدائيين الأشراف، وأصوات الأحرار تخنق ببطش وتجبّر من رجالات السّلطة والمتنفّعين من ثروات الأوطان.
وبعد؛ هذه الرّواية مغامرة سرديّة تجريبيّة لمخاضات الألم والهزيمة في خضمّ تجارب إنسانيّة تؤول إلى الوجع والتّشظّي، وهي سِفْر إدانة لكلّ من ساهم في هذا الخراب الذي يقوّض الأوطان والشّعوب والحضارة، ويحوّل التّاريخ إلى مدافن جماعيّة للجمال والحريّة والأمل.