الإفتاء تحسم الجدل.. هل يجوز الاستنجاء بالمناديل الورقية؟
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه" ما حكم استعمال المناديل الورقية، والورق النشَّاف في الاستنجاء من البول أو الغائط؟ حيث يدعي البعض أنها لا تزيل النجاسة عن موضعها بالكلية، بل يبقى أثرها، وتنقلها عن محلها، وأيضًا يدخل تحت الورق المنهي عنه."، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
مما تقرر عند عامة العلماء: أن الأفضل في الاستنجاء أن يجمع المُحْدِثُ فيه بين الجامدِ والماء، فإن اقتصر على أحدهما: فالأفضل الماء، وإن اقتصر على الجامد فقط: أجزأهُ، بلا خلاف بين العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ لِحَاجَتِهِ، فَلْيَسْتَطِبْ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ؛ فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ» أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى في "مسنديهما"، والدارمي والنسائي في "سننهما"، وغيرهم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (1/ 112، ط. مطبعة القاهرة): [وإن اقتصر على الحَجَرِ أجزأه، بغير خلاف بين أهل العلم؛ لما ذكرنا من الأخبار؛ ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، والأفضل أن يستجمرَ بالحَجَرِ، ثم يتبعه الماء] اهـ.
أحكام الاستنجاء
والاستنجاء بالجامد هو أحد الإجراءات العملية التي يتأتى بها إزالة نجاسة البول أو الغائط، وتطهير موضعهما، ولذلك سُمِّيَ هذا الإجراء استطابةً، والخبر وإن كان واردًا في الحجارة، إلَّا أنه يشمل كل ما يقوم مقامها، ويُحصِّلُ مقصودها، عند عامة العلماء؛ وذلك لأن "الغرض منه معقول، لا يُتمارَى فيه؛ فاقتضى ذلك إقامةَ غير الأحجار مقامَ الأحجار"؛ كما قال إمام الحرمين في "نهاية المطلب" (1/ 109، ط. دار المنهاج)، وأن "التنصيص على الحجر في الخبر جريٌ على الغالب" كما قاله شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "الغرر البهية" (1/ 124، ط. الميمنية).
قال القاضي عياض المالكي في "إكمال المعلم" (2/ 70، ط. دار الوفاء): [وقوله: «ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»: تعلَّقَ داودُ بنص النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عليها أنه لا يجزئ الاستنجاءُ بغير الأحجار، وعامة العلماء على خلافِه، ولكن مالكًا وغيره يستحب الحجارة وما في معنى الحجارة، وما هو من جنسه، واستثناء النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن الاستنجاء بالعظم والروثة وما خَصَّه مما نصَّ عليه: يقابل تعلقَهم بتخصيص اسم الحجارة؛ ولأن تعلق الحكم بالاسم لا يدُلُّ على أن ما عَداه بخلافه عند أكثر الأصوليين، وتعليله صلى الله عليه وآله وسلم عند طرح الروثة بقوله: إنها رِكسٌ. فبيَّن علَّتها، ولم يقل: إنها ليست بحجرٍ: دَلّ أن لا اعتبار بالحجر نفسه، لكن ذكره الأحجار لأنها أكثر ما يوجد، ولأنه قد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَعْوَادٍ»] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "شرح مسلم" (3/ 157، ط. دار إحياء التراث العربي): [وذهب العلماء كافةً مِن الطوائف كلها إلى أن الحجر ليس متعينًا؛ بل تقوم الخِرَقُ والخشبُ وغيرُ ذلك مقامَه، وأن المعنى فيه: كونه مزيلًا، وهذا يحصلُ بغير الحجر] اهـ.
والجامد: هو كل ما قابل المائع؛ من الخل، وماء ورد، وسائر المائعات؛ لأن الشأن في الجامد أن يُنَشِّفَ الرطوبات، ولا يكون ذلك في المائعات؛ كما أفاده العلامة ابن القصار المالكي في "عيون الأدلة في مسائل الخلاف" (1/ 405، ط. مكتبة الملك فهد).
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (2/ 71): [جامدًا؛ لأنَّ به يقع التجفيف، ولأن الشيء الرطبَ والخرقةَ المبتلة أو الحجر المبتل وإن قلع النجوَ وأزاله فإنه خرج عن حَدِّ المسح ولم يبلغ درجةَ الغُسل؛ فخرج عن بابه، ولأنَّ بما فيه من رطوبة ينشر النجاسة عن محلها] اهـ.
فإن آثر المُحدِثُ الاقتصار على استعمال الجامد دون الماء في الاستنجاء: فإنه بالإضافة إلى كونه جامدًا، فقد اشترط العلماء أيضًا عدة شروط؛ كانت كالضابط في تحديد نوع الجامد، ترجع في مجملها إلى كونه: جامدًا (منشِّفًا)، طاهرًا، قالعًا للنجاسة، غيرَ مُحترمٍ أو مطعوم، وبهذا يدخل فيه ما لا ينحصر من الجامدات؛ كما دل عليه كلام الإمام النووي السابق.
قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (1/ 167، ط. دار الكتب العلمية): [فإذا ثبت أنَّ غير الأحجار يقوم مقام الأحجار: فكل شيء اجتمعت فيه ثلاثة أوصاف جاز الاستنجاء به، وهو: أن يكون طاهرًا، مزيلًا، غيرَ مطعومِ.. فهذه الأوصاف الثلاثة تجتمع في الآجُرِّ، والخزف، وَالخِرَقِ، والخشب، وما خَشُنَ من أوراق الشجر، والمدَرِ، إلى غير ذلك من الجامدات التي لا حرمة لها] اهـ.
وقال العلامة الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن" (3/ 774، ط. نزار الباز): [وتخصيص النهي بها: يدلُّ على أن الاستنجاء يجوز بكل ما يقوم مقام الحجر في الإنقاء، وهو كل جامدٍ طاهرٍ قالعٍ غيرِ محترم، من مدَرٍ، وخشب، وخزف، وخِرَقٍ، وسُمِّيَ الاستنجاءُ استطابةً: لما فيه من إزالة النجاسة، وتطهير موضعها من البدن، والله أعلم] اهـ.
حكم الاستنجاء بالمناديل الورقية
والمناديل الورقية أو الورق النشَّاف: هي مواد جامدة صُنعت لتُستَخدَمَ في التنشيف والتجفيف وامتصاص المواد السائلة (كالحبر أو الزيت)، وكما أفاد الخبراء أن أغلب صناعتها في الأساس تكون من لب الأشجار، وهو عبارة عن مزيج من الخشب اللين بنسبة 30% تقريبًا، والأشجار الصلبة بنسبة 70% تقريبًا، حتى إن الأطباء ينصحون بها بعض الحالات في عملية الاستنجاء، وأيضًا في تجفيف البشرات الدهنية، ونحو ذلك.
وهي بذلك لا تخرج عن معنى الخِرَقِ أو الدِّيباجِ أو الصوف أو القطن التي أجاز الفقهاء الاستنجاء بها، بل إن بعض هذه الأنواع أجاز بعض الفقهاء الاستنجاء بها مرتين؛ من كلا جانبيها، إذا لُفَّتْ على بعضها بحيث لا تتندَّى النجاسةُ، أو كانت ثخينة لا تتسرب النجاسة فيها من جانب إلى جانب، وهو المعنى المُراعَى أيضًا في تجويز بعض الفقهاء الاستنجاءَ بالجلد المدبوغ؛ لأن الدباغ يزيل منه ما فيه من الدسومة المانعة من التنشيف.
قال الإمام العيني في "البناية شرح الهداية" (1/ 749، ط. دار الكتب العلمية): [(ويجوز فيه الحجر) ش: أي يجوز في الاستنجاء استعمال الحجر م: (وما قام مقامه) ش: أي ويجوز أيضا بما قام مقام الحجر؛ كالمدر والتراب والعود والخرقة والقطن والجلد ونحو ذلك] اهـ.
وقال الإمام الرعيني المالكي في "مواهب الجليل" (1/ 289، ط. دار الفكر): [(الثالث): دخل في كلام المصنف التراب، وبذلك صرح في "الجلاب" ونصه: ولا بأس بالاستجمار بغير الحجارة؛ من المدر والخزف والطين والآجر، ولا بأس بالخِرَق والقطن والصوف، ولا بأس باستعمال التراب والنخالة والسحالة، انتهى] اهـ.
وقال العلامة عليش المالكي في "منح الجليل" (1/ 106، ط. دار الفكر): [(وجاز) أي: الاستنجاء؛ لأنه يشمل الإزالة بالماء وبالجامد، والاستجمار قاصر على الثاني (بيابس) أي: جاف من أجزاء الأرض أوْ لا؛ كخرقة وصوف غير متصل بحيوان، وإلا كُره] اهـ.
وقال العلامة العمراني الشافعي في "البيان في مذهب الإمام الشافعي" (1/ 227، ط. دار المنهاج): [وإن استنجى بقطعة ديباج أجزأه؛ لأنه جامدٌ طاهرٌ مزيلٌ للعين، لا حُرمة له، فأجزأه كالحجر، قال في "حرملة": وإن استنجى بخرقة من أحد جانبيها، وكانت رقيقة بحيث تصل النجاسة إلى الجانب الآخر، لم يجز الاستنجاء في الجانب الآخر؛ لأنها تتندى بالرطوبة النجسة، فتصير نجسة، إلا أن تُلَفَّ الخرقةُ بعضُها على بعض، بحيث لا تتندى النجاسة إلى الجانب الآخر، أو تكون ثخينة لا تصل النجاسة إلى الجانب الآخر منها، فيجوز حينئذ أن يستنجي بالجانب الآخر؛ لأن النجاسة من الجانب الآخر لا تصل إليه] اهـ.
وقال الشيخ زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 51، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(وجلد) أي وبجلد (مذكى) أو غيره دبغ؛ لأن الدباغ يزيل ما فيه من الدسومة، ويقلبه عن طبع اللحوم إلى طبع الثياب، بخلاف ما لم يُدبَغْ؛ للدسومة المانعة من التنشيف] اهـ.
ولا يلتفت إلى القول بأن هذه المناديل لا تزيل النجاسة بالكلية؛ بل تترك بعض الأثر، أو تنقله عن محلها، وذلك لأن الأمر في الاستنجاء بالحجارة وما في معناها مبنيٌ على السعة والتخفيف؛ اختيارًا واستعمالًا:
أمّا اختيارًا: فيدل عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم «أَوَلَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ!»: يريد بذلك تسهيل الأمر وتيسيره؛ لأن المحدِث لا يكاد يعدم مثل هذا؛ فهو أكثر الأشياء المستنجَى بها وجودًا وأقربها تناولًا؛ كما قرره الإمام الباجي في "المنتقى شرح الموطأ" (1/ 67، ط. مطبعة السعادة)، والإمام العيني في "عمدة القاري" (2/ 299). وهذا باعتبار العرف المعروف آنذاك، أمَا وقد تغير العرف الآن؛ خاصة في المدن والحضر: فإن الحكم يتناول المناديل الورقية التي لا تكاد تخلو منها دورة مياه؛ فهي بذلك مما عمَّت به البلوى.
وأمّا استعمالًا: فلأنَّ الحجر لا يزيل الأثر، وإنمّا يفيد الطهارة من طريق الاجتهاد، ولذلك احتاج إلى الاستظهار بالعدد؛ كما قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (1/ 12، ط. المطبعة العلمية).
فإزالة أثر النجاسة على اليقين مما يتعذّر الوفاء به، وهو شأن غالب الجامدات، والتكليف بما تعذَّر الوفاء به لا يليق بالعزائم والواجبات، فأولى بما مبناه على التيسير والمعفوات.
ومع ذلك: فالمناديل والأوراق أفضل في الاستعمال من غيرها؛ لأنها أقوى على التنشيف والتجفيف، والإِنْقَـِــاء والتنظيف؛ لكونها مُعدَّة لذلك في أصل صنعها.
قال إمام الحرمين الجويني في "نهاية المطلب" (1/ 112): [وسرّ هذا الفصل يتضح بأمرٍ، وهو: أن المقتصر على الأحجار لو كُلّف ألّا ينقل النجاسةَ في محاولة رفعها أصلًا، لكان ذلك تكليفَ أمرٍ يتعذّر الوفاء به، وذلك لا يليق بالفرائض التي ليست برُخَص، فكيف يليق بما مبناه على نهاية التخفيف! فالقدر الذي يعسر -مع رعاية الاحتياط- التَصوّنُ منه في النقل: يجب أن يُعفَى عنه] اهـ.
كما لا تدخل هذه المناديل الورقية أو الورق النشَّاف أيضًا تحت الورق المنهي عنه؛ لأن مرادهم بتحريم الاستنجاء بالورق: ما يكون منه محترمًا؛ لكونه آلة لكتابة العلم والمقدسات، فإذا لم يكن كذلك لم يدخل في التحريم، والأمر كذلك في المناديل وورق التنشيف؛ لأنه مُعَدٌّ لغرض التنشيف والتجفيف، صنعًا واستخدامًا.
قال العلامة المحقق ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار" (1/ 340، ط. دار الفكر): [العلة في ورق الشجر، ولعلها كونه علفًا للدواب، أو نعومته؛ فيكون ملوِّثًا غيرَ مُزيل، وكذا ورق الكتابة لصقالته وتقومه، وله احترام أيضا لكونه آلة لكتابة العلم، ولذا علله في "التتارخانية" بأن تعظيمه من أدب الدين. وفي كتب الشافعية: لا يجوز بما كتب عليه شيء من العلم المحترم كالحديث والفقه وما كان آلة لذلك. أما غير المحترم.. وخلوهما عن اسمٍ مُعَظَّمٍ: فيجوز الاستنجاء به] اهـ
وبناءً على ذلك: فيجوز الاستنجاء بالمناديل الورقية والورق النشَّاف من البول أو الغائط؛ قياسًا على معنى الحجر المنصوص عليه، وانتشارها في هذا العصر كانتشار الحجر في العصور السابقة، وهي داخلة فيما نص عليه الفقهاء من الجامدات الطاهرة؛ كالديباج والخِرَقِ والقطن والصوف، والجلد، ولا يضر كونها لا تزيل أثر النجاسة بالكلية؛ لأن الشأن في الجامدات أن الاستنجاء بها مبنيٌّ على العفو والسعة؛ اختيارًا واستعمالًا، وإزالتها على جهة اليقين مما يتعذّر الوفاء به، وليست من الورق المنهي عن الاستنجاء به؛ لأنها مُعدَّة للاستنجاء أصالة، بل استعمالها أفضل من كثير من الجامدات؛ لأنها أشد في التجفيف والتنشيف، وأبلَغ فـي الإِنْقَاءِ والتنـظيف.