مدير الفتوى المكتوبة بدار الإفتاء في كلمته بالمؤتمر العالمي للإفتاء: مراعاة الواقع له أكبر الأثر في الخلاف الفقهي
قال الدكتور محمد وسام عباس خضر أمين الفتوى، ومدير إدارة الفتوى المكتوبة بدار الإفتاء المصرية: "إن الواقع أساس الفتوى: عليه تنبني، ومنه تنطلق، وعلى حسب تصوره وفهمه تتنزل، وشأن المفتي في الأديان كشأن الطبيب في الأبدان؛ تختلف عنده الأحوال، فينظر في كل حالةٍ حالةٍ، فإذا أحسن تصويرَها وتشخيصها أحسن طبها وعلاجها، وإذا عرف داءَها أصَاب دواءَها، وكذلك المفتي؛ ينظر في واقع كل فتوى؛ فإذا فهم واقعها أدرك تصويرَها، وأحسن بعد ذلك تكييفها وتنزيلها، فكان لا بد للمفتي أن يكون مدركًا لزمانه وأوقاته، مطلعًا على أحوال عصره وسماته، عارفًا بأعرافه وبيئاته، مدركًا لوسائله وأدواته".
جاء ذلك في كلمة له بعنوان "مراعاة الواقع وأثره في الخلاف الفقهي" خلال مشاركته بالجلسة الثالثة بالمؤتمر العالمي للإفتاء 2019م.
وأضاف فضيلته قائلًا إن مراعاة الواقع له أكبر الأثر في الخلاف الفقهي طردًا وعكسًا، وأحد أسباب التنوع في الفتاوى والتغير في الأحكام الفقهية حيث إن الأئمة راعوا وقائع الناس وعوائدهم وأحوالهم ومتطلبات عصرهم، وقد نصَّ العلماء على أنَّ الأحكام تتغير بتغير الجهات الأربع: الزمان، والمكان، والأحوال، والأشخاص، وذلك تحت قُبَّة المقاصد الشرعية، ومظلة المصالح المرعية.
وشدد د. وسام على أن الواقع المعاصر شديد التركيب والتعقيد في أغلب أحايينه، شديد التطور أيضًا؛ لِما يطرأ عليه من مستجدات، بل شديد التدهور أحيانًا؛ لِما يعتريه من مُلمَّات.
ولفت فضيلته النظر إلى أن مراعاة واقع الخلاف الفقهي هو خير شاهد على استمرار الشريعة ومرونة أحكامها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، فهي قادرة بذلك على استيعاب كل الأسقف المعرفية، ومتسقة مع كل الحقائق العلمية، وكما خوطب بها البدوي في الصحراء، فقد خوطب بها رائد السفينة في الفضاء.
وأكد د. وسام على أن الآراء الفقهية تختلف باختلاف عوامل كثيرة؛ منها: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال والأعراف والعادات والبيئات.
وتطرق فضيلته لأثر البُعد المقاصدي في مشروعية الخلاف الفقهي فقال: إنَّ المتتبع لأحكام الشريعة الإسلامية يجدها ذات بعد مقاصدي؛ فهي تهدف إلى تحقيق مصالح الخلق، أفرادًا ومجتمعات؛ جلبًا للخير ودفعًا للضر؛ حتَّى إنَّ الله تعالى لما أرسل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، بيَّن أن له صفتين كريمتين عظيمتين؛ ألبسهما إياه من نعته سبحانه وتعالى؛ وهما: الرأفة، والرحمة: فهو رؤوف؛ يشق عليه ما يصعب علينا، ويحذر أن يصيبنا ما يؤذينا؛ ولذلك رفع الله عنا به الأصرار والأغلال، وهو رحيم؛ يحرص على إيصال كل خير لنا، وهذا يجمل رسالته صلى الله عليه وآله وسلم في أمرين اثنين: جلب المصالح للخلق، ودفع المفاسد عنهم.
وأشار إلى أن الشرع الشريف قد راعى في مسائل الاجتهاد والخلاف طبائع المُكلَّفين وأحوالهم وأزمانهم وبيئاتهم وأعرافهم؛ ولذلك نص العلماء في قواعد الفقه وأصوله أن الشأن في المسائل الخلافية أنه لا إنكار فيها، وأن الإنكار إنما يكون في مخالفة المتفق عليه، وأن من ابتُليَ بشيء من المختلَف فيه فليقلد من أجاز، ونصوا أيضًا على أن الخروج من الخلاف مستحب، وقد قرر فقهاء المذاهب المُعتمدة أنَّ العاميَ لا مذهب له؛ بل له أن يُقَلِّدَ مَن شاء مِن المُجتهدين؛ لأنَّ مذهبه فتوى مُفتيه.
واختتم كلمته بقوله: "لقد حرصت الأصول الإسلامية على تأسيس منهجية لاعتبار المصالح يجب تعميمها في كل المجالات، وإعلاء شأنها لتفعيل الأحكام في التدبير الشرعي كله عند استنباطه وتنزيله على السواء، بما يفتح النص الشرعي أمام عالمه اللامتناهي الوقائع باعتبار خاتمية النبوة وعالمية الشريعة التي تستوعب الإنسان والزمان والمكان".