"الخواجة".. الصليب بألوان الإنسانية
يبدو أن تراكم التشوهات الاجتماعية والاقتصادية في الداخل اللبناني، إلى جانب تحملها عبء أزمات المنطقة قد جعل الأوضاع تنفجر عن حرب أهليلة حقيقية، خاصة بعد تغيرات سياسية في المنطقة، وأزمة المسلحين الفلسطينيين، ففى الفترة ما بين ١٩٦٧ و١٩٧٥ شهد «لبنان» صراعا كبيرا تزعمه رئيس حزب القوات اللبنانية بشير الجميل، والذى وصل إلى الفوز برئاسة الجمهورية اللبنانية، لكن تم اغتياله قبل تولى المنصب.
واتكأ الروائي اللبناني محمد طعان في روايته "الخواجة" على هذه الخلفية بشكل أساسي، فهي لم تكن شكلا يزركش فضاء البناء الروائي بقدر ما كان الصراع الطائفي هاجسًا يشغل "طعان"، ليس في هذه الرواية وحسب، ولكن في أعماله الأخرى نجده يتصدى لأزمة الطائفية وما يمكن أن تخلفه من احتراب داخلي وتشتت ونزوح أهلي واضطراب اقتصادي واجتماعي، ففي روايته "سيد بغداد" رصد بشكل ماهر تطورت أوضاع الطوائف الدينية والعرقية وصراعتها مع السلطة، وتغيرات توزيعهم السكاني على أرض البلاد.
تدور القصة ببساطة شديدة حول المسيو جوزف حفيد سليم أفندي البستاني الذي تعهد بحماية أيقونة السيدة العذراء والصليب المقدس والثمين، الذي أهداهما البطريرك للأمير بشير حاكم لبنان وزوجته الأميرة جيهان المؤمنين، واللذين اعتنقا المسيحية بعد الإسلام، لكن الأمانة تصير أكثر ثقلا عندما تندلع الحرب الأهلية، وتكثر عمليات الهجرة والنزوح إلى جانب حوادث القتل والسرقة والاختفاء، وينجح شاب مسلم ينتمي لكتائب الحزب الاشتركي في اقناع المسيو جوزف الملقب بـ"الخواجة" في هجرة بلدته ليلحق بالعاصمة حيث زوجته وابنته، ليستطع الشاب المسلم بعدما اكتسب ثقة الرجل أن يستولى على كنزه الثمين وأمانته التي يرعاها.
عدة محاور لعب عليها المؤلف ليبرز طابع التشابكية الحتمية الموجودة في المجتمعات العربية والشرقية، وذلك عندما ورد خلال السياق أن المسيو جوزف تربى في الصغر على يد سيدة مسلمه ورضع منها فأصبح ابنا من الرضاعة لابنتها فاطمة، فالمتلقي يجد نفسه أمام أخ مسيحي وأخت مسلمة، وعلاقة قوية تستمر لمدة من الزمن بين الطرفين، وهذا هو هاجس "طعان" في الأساس، فالقضية المذهبية الدينية هي التي تثير عدة ضغائن بين أفراد المجتمع بينما هو يرى أنه ليس من المنطق أن ينشب مثل ذلك الصراع، وقد يكون "طعان" متأثرا بكونه يعيش في مجتمع أوربي لا يعطي للإنسان تصنيف خلقي من حيث الخير والشر على أساس العرق أو الدين، أو قد يكون متأثرا بما تخلفه الصراعات الداخلية من زيادة المعاناة والقسوة الواقعة على كاهل المواطنين.
مسيو جوزيف مواطن لبناني، ومسيحي مؤمن، يكره العنف ويقاوم بحكمته واتزانه تلك التصعيدات التي شهدتها بلدته، التي قد يحدث من ورائها تزايد الأعمال العدائية بين المسلمين والمسحيين في البلدة، وفي نفس الوقت يرفض فكرة الحصول الإلزامي على إذن بالتجول بعد الاجتياح الاسرائيلي لبلدته، وذلك من أجل غربلة السكان واكتشاف الأشخاص المطلوبين من قبل إسرائيل، هو يؤكد موقفه ويرفض ذلك الإذن، فاسرائيل محتل بغيض لأرض لبنان لا أكثر.
وربما يجد المتلقي مشابهة كبيرة بين شخصيتين عند محمد طعان، الأولى شخصية السيد في "سيد بغداد" والثانية شخصية "المسيو جوزف" في رواية "الخواجة فكلاهما كانا مثالا لنبذ العنف ومقاومة الاستبداد مع الاستمتاع بشخصية طيبة.
نحن نجد شخصية "السيد" ذلك الرجل الذي يتميز بصوت مؤثر، وقدرة عجيبة على تحريك المشاعر الدينية، واستمطار الدموع من عيون المؤمنين؛ إثر سماع نكبات آل البيت، وقد مر ذلك الرجل بكثير من المصائب، عصفت به على مراحل متباعدة، فزوجته ماتت في حريق، وابنه قتل، ومسقط رأسه تعرضت لظلم حيث تجفيف الأرض وتحويل مسار المياه بعيدا عنها، وكانت قصته محور أحداث الرواية وعمودها.
ويجب علينا أن ننظر إلى هذين السيدين الكبيرين في الرواياتين المختلفتين، فواحدة تتحدث عن الصراع المذهبي السني والشيعي في العراق، إلى جانب الصراع السياسي والاستبداد الذي مارسه نظام الرئيس الراحل صدام حسين، والأخرى تحدث عن الأزمة الأهلية في لبنان ثم يبدأ الجيش الإسرائيلي في عملية اجتياح الجنوب ومحاصرة العاصمة، ابن السيد في العراق يخرج ليتم توقيفه وقتله ودفنه في مقبرة جماعية، بينما ابن الخواجة في لبنان ينضم للقوات اللبنانية التي تدافع عن التيار المسيحي، ويغرق في المصادمات لكنه يرجع ويقرر أن ينضم إلى منظمة الصليب الأحمر، وهنا يؤكد "طعان" على دور العمل الإنساني المحايد في وقت نشوب أعمال العنف، فيقدم في صدر الرواية الإهداء إلى العاملين في "الصليب الأحمر"، فهي بمثابة اليد المانحة للخير، والمؤججة للمشاعر الإنسانية النبيلة.
ابن الخواجة يشاهد عن قرب مقتل رفيقه وفي الوقت نفسه يعجز عن الاتصال بمركز القيادة أو طلب النجدة من قبل موظفي الصليب الأحمر، وعند عودته للقرية يتذكر أنه أسس مع رفاق مسلمين بالقرية مركز رياضي وفني لعبوا من خلاله ما يقرب من عشرة مسرحيات عالمية، فهل هذا هو البديل المنطقي عن الحروب والنزاعات؟ ويقرر أن ينضم للصليب الأحمر يوزع الإعانات، وقد أوقعه ذلك مستقبلا في لحظة حرجة عندما وجه له أحد المسلمين المنتمين لحركة "أمل" الشيعية فوهة السلاح متهما إياه بالعمل في منظمة مسيحية تعمل على قتل المسلمين.
يعتمد الكاتب على أسلوب سلس لا يغرق متلقيه في تفاصيل الأزمة السياسية التي اشتركت فيها قوات مسلحة من الجانبين المسلم والمسيحي إلى جانب اشتراك المسلحين الفلسطينيين في الأزمة ودخول الأردن على خط المواجهة، لكن المؤلف معني بالدرجة الأولى بالأحداث السياسية التي تؤطر العلاقات البينية مع شخصيات روايته، ويتجه في كثير من الاوقات إلى أسلوب شاعري تأملي يتضح بشدة عندما يتحدث عن علاقة الزمن بالتغيرات التي تطرأ على الإنسان وخاصة التغيرات التي تطال المشاعر والعواطف فيقول: "لكن الزواج والأولاد وصروف الدهر ومرور الوقت خففت تدريجيا من حرارة هذه العلاقة حتى انتهت إلى حد التناسي المتبادل، وإنه لمن غير المعقول والمصدق، كيف يستطيع الزمن -على هواه- تجميد وتبريد العواطف أو إحياءها؟ ومن الأكثر الأمور إدهاشا أن نلاحظ إلى أي درجة يخضع سلوك البشر للظروف التي تغير الطبائع أو تؤجج المشاعر."
في النهاية يمكننا أن نقول أن الحل البديل الذي ألمح إليه "طعان" هو التعاون بين جميع الاطراف، وطرح الصراع المذهبي جانبًا، وهو الموقف المتطور الذي عاد إليه ابن الخواجة الذي كوّن مع رفاق من القرية نادي يزاولون فيه نشاطات اجتماعية وفنية بشكل خاص، وكان المنتسبون إليه من كل ملة قد أقاموا لا أقل من عشرة مسرحيات منها: "تارتوف" و"مريض الوهم" وهما مسرحيتان فرنسيتان من تأليف موليير، الأولى تتناول النفاق الاجتماعي والتستر بلباس الدين حد المرض والتظاهر بالتقوى والورع ، وهي تناهض تدخل رجال الدين في حياة الناس، بينما تناقش الأخرى هلاوس وخيالات أب مريض يريد زواج ابنته على غير رغبتها.. وفي الموقف تلميحات إلى دور الفن في تخليص المجتمعات من أمراض التعصب والعنف.